وجهة نظر | 2008-06-05
بقلم : عبد الباري عطوان
دعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس المفاجئة يوم امس الي حوار وطني يهدف الي تحقيق المصالحة بين حركتي فتح و حماس ، اثارت العديد من علامات الاستفهام حول دوافعها، والأسباب الكامنة خلفها، خاصة انها جاءت بعد يومين من لقاء القمة الاخيرة بينه، أي الرئيس عباس ونظيره الاسرائيلي ايهود اولمرت في القدس المحتلة.
من الواضح ان الرئيس عباس قرر القاء هذه القنبلة انطلاقا من عوامل موضوعية دفعت الي ذلك، وهو الذي كان يعارض الحوار، وان ايده فبشروط تبدو تعجيزية للغاية يستحيل قبولها من الطرف الآخر. فقد رفض اعلان صنعاء الذي جاء ثمرة حوار معمق بين وفد حركة فتح برئاسة السيد عزام الاحمد ووفد من حماس بقيادة الدكتور موسي ابو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي، برعاية الرئيس اليمني علي عبد الله صالح.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو ما الاسباب الخفية لهذه المبادرة من قبل الرئيس عباس، وفي مثل هذا التوقيت علي وجه الخصوص؟
الاجابة تبدو صعبة، فالرئيس عباس الذي استغل مناسبة نكسة حزيران (يونيو) التي تصادف ذكراها يوم غد، وهو الذي لم يتذكرها مطلقا في مناسبات سابقة، رفض الاجابة علي اسئلة الصحافيين واكتفي بقراءة بيان معد له سلفا. ويمكن التكهن بثلاثة احتمالات ربما تكون خلف هذا التحرك:
الاول: ان يكون الرئيس عباس قد ادرك ان مركب مفاوضاته مع الطرف الاسرائيلي قد اوشك علي الغرق، وقرر القفز منه لإنقاذ نفسه، والنجاة بحياته السياسية، او ما تبقي منها، بالعودة الي البيت الفلسطيني، ومحاولة اعادة ترتيبه مجددا.
الثاني: ان يكون الرئيس عباس سمع من شريكه ايهود اولمرت عن مخططات اسرائيلية مؤكدة باجتياح قطاع غزة عسكريا، بهدف اجتثاث حركات المقاومة الفلسطينية جميعا، وانهاء عمليات اطلاق الصواريخ علي المستوطنات والمدن الاسرائيلية في شمال القطاع، ولهذا قرر ان يستبق الامور، بارساله رسالة تصالحية الي هذه الفصائل، والتنصل بالتالي من هذه المخططات الاسرائيلية كليا.
الثالث: ان يكون عباس يريد استخدام مبادرة الحوار هذه مع حماس من اجل الضغط علي امريكا واسرائيل من اجل انقاذ المفاوضات، وانقاذ سلطته، اي ان هذا هو سهمه الاخير للضغط علي امريكا.
لا نستطيع ان نرجح خياراً علي آخر، فكل الاحتمالات واردة، ففشل العملية التفاوضية بات واضحا للعيان بعد ان اصبحت ايام ايهود اولمرت في السلطة معدودة للغاية بفعل الفضائح المالية المتهم فيها، والتصريحات التي ادلي بها قبل يومين واكد فيها ان القدس المحتلة هي العاصمة الأبدية الموحدة للدولة الاسرائيلية، ناهيك عن تصديقه وتأييده لاقامة 900 وحدة سكنية في مستوطنة جبل ابو غنيم.
اما بالنسبة الي اجتياح قطاع غزة فان مقدماته قد بدأت فعلا في التوغلات الاسرائيلية شبه اليومية في وسطه وجنوبه وشماله، مضافا الي ذلك ان ايهود باراك وزير الدفاع الاسرائيلي اكد ان الاجتياح الشامل بات وشيكا.
ما يمكن قوله، وباختصار شديد ان الرئيس عباس ادرك ان ايامه هو نفسه، مثل شريكه اولمرت، باتت معدودة في السلطة، بل ان السلطة التي يتزعمها في رام الله تعيش في غرفة الانعاش، وتوشك ان تلفظ انفاسها الاخيرة، فقرر ان ينجو بجلده، ويدعو الي انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة، حتي ينسحب بهدوء، وبطريقة تحفظ ماء الوجه. فقد ذكر اكثر من مرة انه لن يترشح لفترة رئاسية ثانية، وسيعتزل السياسة نهائيا.
مبادرة الرئيس عباس بفتح حوار مع حماس ودون اي شروط، مثل التراجع عن انقلابها ، ربما تعني القطيعة الكاملة مع كل من واشنطن وتل ابيب اللتين تضعان فيتو علي مثل هذا الحوار، وقد خير ايهود اولمرت الرئيس عباس اكثر من مرة بين الحوار مع اسرائيل او الحوار مع حماس .
القطيعة مع واشنطن وتل ابيب لو تمت، والحال كذلك، بل وشبه مؤكد، تعني انهيار السلطة الفلسطينية التي انبثقت عن اتفاقات اوسلو، وتوقف جميع المساعدات المالية الامريكية والاوروبية، وربما العربية ايضا. فكيف ستدفع هذه السلطة رواتب حوالي مئة الف موظف يعتمدون عليها اعتمادا كاملا في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي اكثر من خمسين سفارة فلسطينية في مختلف انحاء العالم؟
لا نعرف ما اذا كان الرئيس عباس قد وضع كل هذه الاعتبارات في حسابه قبل ان يطلق دعوته للحوار هذه، او ان يكون قد تشاور مع اقرب مساعديه في هذا الشأن، وكذلك اعضاء اللجنة المركزية في تنظيمه، وفوق كل هذا وذاك مدي جدية هذا الموقف، وامكانية التمسك به ورفض الضغوط الهائلة التي يمكن ان تنهال عليه للتراجع عنه.
نصلي ان يكون الرئيس عباس جادا في هذا الموقف، وان لا يتراجع عنه، مهما بلغت حدة الضغوط ضراوة، فالانقسامات ارهقت الشعب الفلسطيني، وصبت في مصلحة اسرائيل، خاصة ان درب التفاوض لم يقد الا الي المهانة والإذلال والمزيد من المجازر والمستوطنات.
مبادرة الرئيس عباس هذه، وعودته الي البيت الفلسطيني، بيت الوحدة الوطنية، وتخليه ضمنيا عن المفاوضات العبثية، قد تكون افضل عملية فدائية يقدم عليها في حياته، ونأمل ان يكون تفاؤلنا في محله، ولا يخذلنا بالتراجع عن مبادرته هذه.